أهمية التراث للأمة وأسباب تألق الحضارة العربية الإسلامية ودواعي نجاحها - دار التأصيل
›› الأبحاث / أهمية التراث للأمة وأسباب تألق الحضارة العربية الإسلامية ودواعي نجاحها
الكاتب : الاستاذ / عصام الشنطي رحمه الله
الزيارات : 8544 زائر
أهمية التراث للأمة وأسباب تألق الحضارة العربية الإسلامية ودواعي نجاحها
(1)
توطئة:
حين جاء الإسلام في الجزيرة العربية، كانت الأُمية هي الطابع الفاشي لهذه الأمة، وكان الذين يعرفون الكتابة وشيئًا من الحساب في مدينة مكة المكرمة آنذاك يعدون على الأصابع، على ما ذكر ابن عبد ربه الأندلسي (ت328هـ-940م) في كتابه المشهور «العِقْد الفريد»، مع أنها مدينة –بجانب أهميتها الدينية- تجارية تتعامل مع كثير من القبائل، وفي تجارتهم إلى بلاد الشام وغيرها.
والعجيب أنه لم تمضِ بضعة عقود، إلا قد تهيأ للأمة بوادر تقدم، فانتشرت الرغبة في تعلم القراءة والكتابة انتشارًا سريعًا، وتعددت المدارس في المساجد والساحات بجوارها في كل مكان من بلاد العرب وأطرافها من البلاد المفتوحة. وانقلب الحال من أمة أمية، إلى مجتمع أصبح القادرون فيه على القراءة والكتابة من الكثرة ما يُدهش.
ولم يمضِ على تلك البداية قرنٌ، وبعض قرن، إلا تجلت إبداعات في العلوم النقلية. وطبيعي أن يلتفت العرب والمسلمون أول ما يلتفتون إليه هو القرآن الكريم والحديث النبوي، فألفوا في علومهما، وكذلك في الفقه القائم على الشريعة الإسلامية السمحاء.
ثم توجهوا إلى لغتهم العربية لغة القرآن، فوضعوا نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، وطلائع معاجمها اللغوية، وألفوا كتبًا في التاريخ، وحوادث السنين، ومن علماء هذه العلوم المتميزين المبدعين: الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (ت170هـ-786م)، وسيبويه (تعني بالفارسية: رائحة التفاح) (ت180هـ-796م)، وهو من تلاميذ الخليل الأفذاذ، وغيرهما كثير.
أما العلوم العقلية، أو العلوم التجريبية، فقد كانت معارفهم فيها محدودة، نَمَّوْها بالترجمة عن الأمم الأخرى من ذوي الحضارات السابقة كالإغريق في أوربا، والفرس والهنود في المشرق، ولم تكن أديان تلك الأقوام عائقًا عن أخذ العلوم عنهم.
(2)
دواعي النجاح:
من هذه التوطئة يلفت النظر هذا التألق الحضاري الذي يبعث على التساؤل، ما أسبابه؟ وما دواعي نجاحه؟
إن الإجابة تنصرف إلى حُزمة اجتمعت لدى هذه الأمة، وهيأت لها الاشتغال بالعلوم المختلفة، وشاركت في ركب الحضارة الإنسانية، وقدمت له حضارة نعتز بها ونفخر.
أول هذه الدواعي أن الإسلام في القرآن والحديث حثنا على التعلم، والإقبال على المعرفة، وميز العلماء بما فيهم من فضيلة العلم.
والآيات الكريمات كثيرة في هذا المعنى، وحسبي في هذه المحاضرة المكثفة الآية: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ [سورة الزمر، الآية: 9].
وكذلك السُّنة المطهرة جعلت طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ونحفظ منذ صغرنا ما في الأثر: «اطلبوا العلم ولو في الصين»([1]). ونعلم كذلك أن من أسرى «بدر» ممن لم يكن له فداء، علم عشرة غلمان من غلمان المدينة المنورة. وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون.
وثاني هذه العوامل انتشار أدوات الكتابة، وفي مقدمتها صناعة الورق، وفي زمن في أوائل قيام الدولة العباسية كان العرب يأتون بالورق شراء من سمرقند التي تعلمته من الصين. وفي عهد هارون الرشيد جلب البرامكة عمالًا من سمرقند والصين إلى بغداد ووفروا لهم معامل الصناعة، وبدأ الورق ينتشر في قصبة البلاد بثمن أقل بكثير من ورق البردي والرقوق (الجلود). ومنها انتشرت صناعته في بلاد الشام ومصر والمغرب والأندلس. والأوربيون عرفوا الورق من عرب الأندلس الإسلامية، وكانوا يشترونه منهم، وتعلموا صناعته على أيديهم.
وقد ولَّدت صناعة الورق مهنة الوِرَاقة، وأصبح هناك دكاكين الورَّاقين في بغداد أولًا، مهمة أصحابها: تقطيع الورق وبيعه، وكذلك نسخ المخطوطات، ومراجعتها وتصحيحها وتجليدها وبيعها.
وفي خِضَم هذا الزَّخَم الحضاري تأسست المكتبات العامة، قام بتأسيسها الخلفاء والأمراء والولاة، ونسمع في التراث عن مكتبات تحتوي على ألوف مؤلفة من هذه الكتب المخطوطة.
انتشرت المكتبات في عهد العباسيين في بغداد، والأمويين في الأندلس، والموحدين في مُرَّاكش، والعمرانيين في حلب، وبني عمار في طرابلس الشام، والفاطميين في مصر، وغير ذلك، وحسبنا أن نشير إلى أنه كان في المكتبة الواحدة مئات من النُّسَخ من الكتاب الواحد، وما توفر هذا العدد إلا لكثرة طلاب العلم والبحث.
وثالث هذه العوامل التي ساعدت على نجاح هذه الحضارة نظام التعليم في الإسلام، فقد كان التعليم –خاصة في القرون الأولى- بالمجان، ولم يكن العالِم يتقاضى عن تدريسه أجرًا، وكلهم كانت لهم مهن يعتاشون منها، ونُسبوا إلى هذه المهن، كالثعالبي والفراء والزجاج... إلخ.
وكان عندهم نظام المعيد، بمعنى أنه إذا كان عدد الطلاب كثيرًا –يصل أحيانًا إلى ألوف- فإن الشيخ يقول الجملة من كتابه، والمعيد أو أكثر، ينقلون ذلك بصوت عالٍ ليسمع الجميع، فيكتبون ما سمعوه.
وكذلك من أسلوب التعليم أن يجلس الشيخ يُملي على طلابه ما يعنُّ له من علم وفوائد ارتجالًا دون الرجوع إلى كتاب بين يديه، ويجيب على كل سؤال يُلقى عليه، ويُفيض الشيخ في الإجابة مستقصيًا المسألة إلى آخرها. وكان بعضهم يخصص أيامًا من الأسبوع للأمالي، والأمثلة في التراث العربي كثيرة مثل: «أمالي أبي علي القالي» التي أملاها في قرطبة، و«أمالي ابن الشجري»، و«أمالي المرتضى»، وكتاب «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي.
إن حلقات الدرس التي كانت تجري في المساجد والساحات المجاورة، كان ينمو فيها الحوار بين الشيخ وتلاميذه، وكان هذا باعثًا على خلق حركة علمية، وشيوع نهضة في مختلف العلوم النقلية والعقلية، التي تميزت الحضارة العربية الإسلامية بالتوازن بينهما، لم يطغَ أحدهما على الآخر.
أما رابع هذه العوامل اهتمامُ الخلفاء وقوة سلطانهم على معرفة علوم الأمم السابقة كالإغريق والفرس والهنود، وبدأ الاطلاع عليها بالترجمة، وقد بدأت في أواخر عهد الأمويين بدمشق. وتصاعدت في العهد العباسي، منذ عهد أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد، والذي تولى الخلافة ما يزيد على عشرين سنة، وكان له خزانة كتب غذَّاها بأن بعث إلى ملك الروم يطلب كتبًا إغريقية لمكتبته، وأخذ المترجمون –بطلب من الخليفة- في نقلها إلى اللغة العربية.
وبلغت الترجمة في عهد الخليفة المأمون (ت218هـ-833م) قمَّتَها، وهو الذي أسس في بغداد (بيت الحكمة)، ودارين للرصد الفلكي، وكانت هذه بمثابة مركز للترجمة والبحث العلمي، يتبعها مكتبة فخمة للمصادر والمراجع. وقد مارس المأمون نفسه بعض النشاطات العلمية في الفلك على آلات رصدية كبيرة ودقيقة.
وكان هذا الخليفة يشجع على الترجمة، ويحرص على إحضار كتب علوم القدامى من الإغريق وغيرهم بشتى الوسائل، ويوفر المترجمين لنقلها إلى العربية، وكان ذلك يتم غالبًا عن طريق اللغة السُّريانية ويكافئهم مكافآت سخية، ويقربهم من مجلسه توقيرًا لهم، وتقديرًا لمكانتهم.
وقلنا –قبل قليل- إن ديانات هؤلاء الأقوام الذين أخذ عنهم العرب والمسلمون، لم تكن عائقًا عن أن ينهلوا من علومهم، وهم وثنيون. ولم تتحرج الأمة من هذه الاستفادة العلمية، وهم أقرب للإسلام منا اليوم.
ولا نغفل عاملًا خامسًا كان معينًا على تفوق دور العرب الحضاري، وهو ما عرف عن الإسلام من تسامح وحرية رأي، ومعاملة طيبة للمواطنين الجدد، سواء الذين اعتنقوا الإسلام أو بقوا على دياناتهم، فهذا التسامح وهذه الحرية جعلت المواطنين الذميين يشاركون في بناء الحضارة الجديدة، جنبًا إلى جنب مع المسلمين، وقد ذكرنا دور السُّريان في الترجمة من الإغريقية إلى السريانية فالعربية، وابن المقفع الفارسي الذي بقي على مجوسيته، ولم يسلم إلا في أخريات عمره. وقد نقل كثيرًا من كتب سياسة الدول ونُظُمها، وسلوك الخلفاء وعدلهم، وكتب الأدب، من الفارسية إلى العربية، وكان متقنًا لها، فصيحًا فيما يكتب، ويُذكر أسلوبه من الأساليب التي تُحتذى. والأطباء في العصر العباسي كان كثير منهم من أصول فارسية. والبيروني (ت440هـ-1048م) كان بجانب إتقانه العربية وانتصاره لها، يعرف الهندية التي نقل منها علومًا متقدمة. وإن نسينا لا ننسى طائفة اليهود في الأندلس الإسلامية الذين عوملوا فيها بعدالة، لم يشهدوها قبل العهد العربي الإسلامي. وكانت مشاركتهم بإزاء ذلك مشاركة فاعلة.
(3)
كُنَّا ونكون:
بهذه العوامل جميعًا كان دور العرب المسلمين الحضاري فاعلًا. فلم يكتفوا بفهم علوم الأمم الأخرى عن طريق الترجمة، وإنما هضموا ما فهموه، وتمثلوه جيدًا، وبلغوا من العمق أن صححوا كثيرًا من أوهام العلماء الإغريق، مثل جالينوس وبطليموس، في الفلك والرياضيات، وغيرهما من العلوم، وطوَّر العرب هذه العلوم، وأتوا بجديد أضافوه إليها، طيلة تسعة قرون كاملة. وتُعد حضارتهم الزاهرة من أطول الحضارات عمرًا في التاريخ، واتسع مجالها في الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، وطبيعة العلوم –كما هو معروف- تراكمية، هذا يأخذ من ذاك، وهذا يضيف إليه جديدًا، والإغريق أنفسهم أخذوا من أمم سابقة كالبابليين والآشوريين في حضارة ما بين النهرين: دجلة والفرات، كما أخذوا علوم مصر القديمة في العهد الفرعوني.
أما تقدُّم هذه الحضارة في العلوم النقلية، فقد كان ذاتيًّا خالصًا، منبعثًا من القرآن الكريم، وإبداعهم فيها شاهد كبير على المشاركة الفاعلة في ركب الحضارة الإنسانية.
ثم غربت شمس هذه الحضارة، بعد قرون الإبداع، منذ قرون –تقدر بنحو أربعة قرون حسب- نسوا فيها أصحابها تراثهم بسبب الحروب والاحتلالات، وفتورهم عن الاهتمام بالعلوم، إلى أن جاء القرن العشرون المنصرم، وأصبحنا فيه ثلاث طوائف:
طائفة تقدس القديم، وتتمسك به، وترفض الجديد، وتعده غزوًا ثقافيًّا.
وطائفة في الطرف الآخر، تلفظ القديم بكامله، وترى الأخذ من الغرب علومهم المعاصرة.
وطائفة –أحسبها الآن غالبة- ترى الرجعة إلى التراث، ورعايته وتطعيمه بالجديد الغربي؛ ليكون له طعم مختلف، له خصوصية أصحابه.
إن أيَّ أمة من الأمم ترغب في النهوض، وتوفرت لها أسباب ذلك، لا بد أن تعود لتراثها، تنشره محققًا مدروسًا، مع الأخذ بالعلوم الحديثة؛ ذلك أن نهضة الأمم لا تبتدئ –عادة- من الصفر، بل تكمل ما انقطعت عنه، وتصل ما توصلت إليه في السابق.
إن الغرب على تقدمه العلمي التقني، إنما يعود إلى تراثه، يرى فيه فوائد يجنيها، وتراثنا زاخر بالفوائد، وليس صحيحًا أنه نافع لدروس تاريخ العلوم حسب، والأمثلة كثيرة، أكتفي بضرب واحد منها، وهو كتاب «الجوهرتين» لابن الحائل الهمداني (ت334هـ-945م)، الذي يتضمن معلومات جيولوجية وتعدينية، لما رجعت إليه بعثة أجنبية عُهد إليها التنقيب عن موارد اليمن المعدنية والبترولية، أفادت منه كثيرًا، وأدى إلى اكتشاف العديد من المناجم بكميات تجارية.
إن إحياءَ تراث العرب تحقيقًا ودرسًا، يكشف لنا عن حقيقة دور العرب الحضاري، إبان نهضتهم، ومدى مشاركتهم في مسيرة الحضارة الإنسانية، وبهذا تدخل هذه المباحث في نطاق العزة القومية، وفضل الإسلام على تلك الحضارة، وهي بالتالي تُفيد في استنهاض همم الناشئة والشباب، وترفع من معنوياتهم، لإكمال مسيرة الأجداد إلى آفاق مستقبل مشرق.
إن شعارَنا الآن كما ينبغي أن يكون: بالماضي نبني المستقبل، ونطوره إلى مجتمع حديثٍ حقًّا.
([1]) روي في كتب الحديث: «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وجاء في الشطر الأول منه: متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، أما الشطر الثاني: يرتقي إلى درجة الحسن، فإن له طرقًا كثيرة عن أنس بن مالك، وروي عن جماعة من الصحابة.
›› التعليقات
›› أضف تعليق