تعريف المخطوطة وصناعة الورق والوِراقة والنِّساخة والمكتبات الزاخرة بالمخطوطات وخدمتها - دار التأصيل
›› الأبحاث / تعريف المخطوطة وصناعة الورق والوِراقة والنِّساخة والمكتبات الزاخرة بالمخطوطات وخدمتها
الكاتب : الاستاذ / عصام الشنطي رحمه الله
الزيارات : 8947 زائر

(1)
تعريف المخطوطة:
تخلو المعجمات اللغوية القديمة من مادة (مخطوطة)، فإذا رجعنا إلى «لسان العرب» لابن منظور (ت711هـ-1311م)، وإلى «تاج العروس» للزَّبيدي (ت1205هـ-1790م) تجدهما خاليين من ذكر هذه المادة، فضلًا عن تعريفها.
أما إذا عدنا إلى «المعجم الوسيط» الذي أخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، سنة 1960م، في طبعته الأولى، نجد هذه المادة قد بدأت تدخل في المعجمات المتأخرة، تفريقًا بينها وبين الكتاب المطبوع، فقد جاء في جَذْر (خَطَّ) من المعجم المذكور: «المخطوط: المكتوب بالخط، لا بالمطبعة، جمعه مخطوطات، والمخطوطة: النسخة المكتوبة باليد».
وكان الأجداد الأَعْلَوْن لا يتعاملون مع الكتاب، أو الكُراسة، إلا مخطوطًا، وهو الشكل الوحيد من الكتب لديهم؛ لسبب بسيط: أن المطبعة لم تكن قد ظهرت بعد.
وببساطة نعرِّف المخطوطة: بالكتاب، أو الكُراسة، الذي كُتب على ورق أو نحوه، بخط اليد، قبل نشأة الطباعة بنحو قرن ونصف القرن، أو قرنين على وجه التقريب. نقول على وجه التقريب لأن الطباعة عرفت في الأقطار العربية والإسلامية على تفاوت، فبعضها عرفها مبكرًا، وأخرى كحضرموت من اليمن وموريتانيا كانوا إلى عهد قريب يتعاملون فيما بينهم مع نِساخة المخطوطات بأسلوبها التراثي القديم.
وحين ننظر إلى المخطوطات من جهة لغتها وحروفها، نجدها على نوعين:
الأول: المخطوطات العربية: وهي التي كتبت باللغة العربية، تمييزًا لها عن المخطوطات الإسلامية، وهي النوع الثاني، التي تُعنى بالتراث الإسلامي، لكنها كُتبت بلغة غير العربية، كالتركية (العثمانية)، والفارسية، والأوردو (في الهند وكشمير)، المحتوية على ألفاظ عربية غير قليلة، وحروفها حروف اللغة العربية.
فمعهد المخطوطات الذي أنتمي إليه منذ ما يربو على ثلث قرن، والذي انبثق عن جامعة الدول العربية، سُمي معهد المخطوطات العربية؛ لأنه معنيٌّ بالمخطوطات التي كتبت باللغة العربية.
(2)
صناعة الورق:
كنَّا –في المحاضرة الأولى- قد مسسنا هذا الموضوع مسًّا رفيقًا، حين جاء عَرَضًا أن صناعة الورق عند العرب والمسلمين في القرون الهجرية الأولى، وانتشارها في أنحاء شتى من ممالكهم شرقًا وغربًا، كانت من دواعي نجاح الحضارة العربية الإسلامية؛ لأن الورق مادة أساسية لنشر المعرفة، وبها تُثرى حركة التأليف والاستنساخ.
على أننا الآن سنبسط القول فيها بعض الشيء، وفاءً بمقتضى الحال.
كان العربُ في صدر الإسلام يكتبون على جريد النخل، والحجارة والعظام والفَخَّار، والرَّق من جلود الحيوانات، ثم عرفوا بعد ذلك ورق البردي، الذي يُصنع من نبات البردي، النامي على ضفاف نهر النيل ومستنقعاته بمصر.
وفي العهد العباسي، في زمن أبي جعفر المنصور (136-158هـ/754-775م) الخليفة الثاني، وباني بغداد، كانوا يأتون بالورق من سمرقند، فيما وراء النهر شرقًا، يُنقل على ظهور الإبل في قوافل، وكانت سمرقند قد أخذت هذه الصناعة عن الصين، والصينيون أساس صناعته في العالم.
وقلنا: إن الحضارة الفكرية نَمَت متدرجة منذ أواخر العهد الأموي، إلى أن بلغت زخمها في عهد المأمون، ومن بعده أخيه المعتصم، مرتبطة بصناعة الورق في بغداد.
لقد انتقلت صناعة الورق إلى بغداد بانتقال أسرى صينيين إليها في عهد الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م). وتعلم العرب منهم تكوين عجينة الورق من نباتات جافة، وخِرَق بالية، بمعدات بسيطة غير معقدة، وُفِّرت للأسرى في بغداد. وبهذا استطاع العرب في عهد هذا الخليفة من إنشاء أول معمل للورق سنة (177هـ-793م).
وعرفوا في بغداد صناعة الورق مسطَّحًا على هيئة كتاب. وكان قبل ذلك تُلف الجلود المكتوب عليها في لُفافات.
ونمت بتوافر الورق النهضة العلمية في مختلف العلوم، وكثرت دكاكين الوِراقة والوراقين، وبجوارها مكتبات صغيرة لبيع الكتب. كما كثرت المكتبات الخاصة والعامة التي تحتوي على مئات المخطوطات.
وجدَّد العرب من عجينة الورق وحسَّنوها، باستخدام مواد أفضل مما كان يفعله الأسرى الصينيون. وانتقلت هذه الصناعة بالتالي إلى دمشق ومصر والقيروان ومراكش وطليطلة بالأندلس، الذي أنشئ معمله سنة (545هـ-1150م) وتبعها بلنسية وشاطبة وغيرهما.
وبرعوا في صناعة أنواع الورق المختلف. وذكر النديم (ت380هـ-990م) الذي كان وراقًا في بغداد أنواعًا كثيرة منه، في كتابه المشهور «الفهرست»، واستبدل أهل مصر هذا الورق بورق البردي والرقوق؛ لأنه أقل ثمنًا، وأيسر في الكتابة عليه.
ومن الأندلس عرف الأوربيون الورق لأول مرة، وبدءوا يشترونه من معاملها. وكانوا قبل ذلك يكتبون على ألواح الخشب المغطاة بالشمع، والرقوق الجلدية. وكثرت معامل صناعة الورق في الأندلس حتى تنتج كميات تكفي حاجة البلاد، وما يُباع إلى أوربا. وكانت إيطاليا وفرنسا هما السباقتان لشرائه، وكان الأندلسيون قد أدخلوا في عجينة الورق القطن، فأصبحت أنواعه منها ذات جودة متميزة.
وأنتج العرب أنواعًا مختلفة من الحبر، ولدينا عدد غير قليل من المخطوطات التي تبين صناعته بألوانه المتنوعة، يُضاف إليه الصمغ لتثبيته على الورق، وحتى لا تنتشر الكتابة عليه.
وكتبوا بساق من الغاب، يُبرى بريًا مائلًا، وتنوعت القَطَّات لتنويع الخطوط من نسخ وثلث ورُقعة وديواني وفارسي.
(3)
الوِرَاقة والنِّسَاخة:
إن الحركة العلمية التي انتشرت بالتأليف والترجمة، مع توفر الورق بصناعته محليًّا، ولَّد مهنة جديدة، هي مهنة الوراقة، ويُدعى الذي يقوم بها ورَّاقًا، وجمعها وراقون. وكان عمل الوراق بيع الورق بعد تقطيعه تقطيعًا مناسبًا لمن يرغب في الشراء، وكذلك بيع أدوات الكتابة وموادها المتمثلة في الأقلام والحبر بأنواعه.
أما عمله الرئيس فهو نسخ المخطوطات ومراجعتها وتصحيحها، ثم جمع هذه الأوراق بين دفتي غلاف من الجلد، وإذا طلب منه زخرفته وتذهيبه قام بذلك.
وقيل قيل: إن عدد دكاكين الوراقين وبائعي المخطوطات المنسوخة بلغ في بغداد –في عز الحركة العلمية في العهد العباسي (القرن الثالث الهجري)- نحو مائة دكان في أسواق خاصة بهم.
ولكثرة الإقبال على بيع المخطوطات كان الوراق يستخدم عددًا من النساخين. أما هو فكان يحرص على أن يخص نفسه بنَسْخ الكتاب النادر والنفيس منها.
وكانت المخطوطات الجاهزة للبيع تُرص على الرفوف نائمة فوق بعضها لا قائمة كما نرصها في أيامنا هذه.
ولم تكن مهنة النساخة مُمتهنة، بل كان يشترط في الناسخ أن يكون على علم بما ينسخ، وأن يتنبه إلى ما يقع أثناء النساخة من تصحيف وتحريف. وعلى دراية بضبط النص ضبطًا صحيحًا. بالإضافة إلى أن يكون حسن الخط مجوِّدَه. وهي مهنة –بالتالي- تُفيد الناسخ وتطلعه على كثير من العلوم.
ووصل إلينا أن أبا حيان التوحيدي (ت على الأرجح 414هـ-1023م) اتخذ النسخ حرفة، وهو من العلماء الكبار، حار الباحثون في عده أديب الفلاسفة، أو فيلسوف الأدباء، فدُعي بالاثنين معًا، واشتهر بنسخ كتب الجاحظ (ت255هـ-868م) وإتقانها؛ لأنه كان على دراية بما اعتورها من أخطاء النُّسَّاخ.
ومنهم أيضًا ياقوت الحموي (ت626هـ-1228م) الذي عمل ناسخًا بالأجر. وهي مهنة فتحت له أبواب العلم على مصراعيها، فألف من الكتب القيمة ما جعله في زمرة العلماء الكبار.
وأصبح الخط صناعة يشترك المحترفون من الخطاطين فيها، وراجت الكتب التي كانوا يكتبونها. نذكر منهم ابن البَوَّاب (ت413هـ-1022م) الذي يُعد إحدى القمم الثلاث في تطوير الخط وتنميقه وهندسته، مع ابن مُقْلَة الذي ظهر قبله، وياقوت المستعصمي الذي جاء بعده.
وأصبحت دكاكين الوراقين بمثابة مراكز ثقافية، يرتادها أهل العلم والأدب، كانت فيها مجالسهم ومناظراتهم. ونعلم أن الجاحظ (ت255هـ-868م) كان لا يستطيع شراء الكتب، فيستأذن الورَّاق في أن يبيت في دكانه للاطلاع والقراءة، وكان يُحضر معه سراجه، وينهل طَوال الليل من هذه المخطوطات، وقد أمدَّه دكانُ الوراق بزاد وافر من العلم والمعرفة.
ولم تعدم ساحة الوِرَاقة الواسعة من نُساخ غشاشين، يؤدون أعمالهم بعيدًا عن الأمانة والإتقان، واتخذوا من ألوان الغش طرقًا تؤدي بهم إلى اختصار الوقت، وإنجاز العمل، تعجلًا إلى الحصول على الأجر.
ولكن هذه الساحة كانت تصطبغ -عمومًا- بصبغة الأمانة، وأداء العمل من تجويد الخط وضبط النص ومراجعته وتصحيحه. ولو شئتُ أن أنهي حديثي عن الوِرَاقة بما اتصفت به من قدسية، أذكر أن العرف كان يقضي أن يتوضأ النُّساخ قبل الشروع في النسخ.
(4)
المكتبات الزاخرة بالمخطوطات وخدمتها:
لا شك في أن المخطوطات العربية والإسلامية تكشف عند الرجوع إليها عن النشاط الفكري لهذه الأمة إبان نهضتها، وتعكس أعظم انطلاق للعقل البشري في مختلف العلوم، وبالتالي تبين مدى مساهمتها في ركب الحضارة الإنسانية.
وبالرغم من عبث الزمن بمئات الآلاف من المخطوطات، فالحقيقةُ التي لا مراء فيها أن ما وصل إلينا منها كثير، موزع في مكتبات الأقطار العربية، والعالم الإسلامي، والدول الأجنبية.
وفي الأقطار العربية الآن من المكتبات العامة ما هو زاخر بالمخطوطات، نذكر منها أكثرها شهرة وذيوعًا: الخزانة العامة بالرباط، ومكتبة جامع القرويين بفاس، ودار الكتاب الوطنية بالجزائر، ودار الكتاب الوطنية بتونس، ودار الكتب المصرية بالقاهرة، والمكتبة الظاهرية بدمشق، ومكتبة الأوقاف بحلب (نقلتا إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق)، والمتحف العراقي ببغداد، ومكتبة الحرم المكي، ومكتبة عارف حكمت، والمكتبة المحمودية بالمدينة (نقلتا إلى مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة، التي بُنيت مكان سقيفة بني ساعدة التاريخية)، ومكتبة الجامع الكبير بصنعاء، ودار المخطوطات بصنعاء أيضًا، ومكتبة الأحقاف في مدينة تريم بحضرموت، وغيرها كثير.
أما في العالم الإسلامي، فمنه تركيا ومكتبات إستانبول الزاخرة بالمخطوطات النفيسة عددها بالمئات. وفي باكستان مخطوطات كثيرة موزعة في كل مكان، ومثلها الهند التي تحتوي مكتباتها العامة والخاصة على كثير منها في دلهي وحيدر أباد ومَدْراس وكَلْكتَّا وبَتْنه. وفي سراييفو بجمهورية البوسنة والهرسك مكتبات كثيرة، أشهرها مكتبة غازي خسروبك الإسلامية، ومكتبة معهد الدراسات الشرقية.
وكذلك لا تخلو بعض البلدان الإفريقية من المخطوطات المهمة كنيجيريا والسنغال.
أما في قارتي أوربا وأمريكا، نذكر روسيا في معهد الدراسات الشرقية بمدينة بطرس بيرج (لينين جراد سابقًا)، ويريفان في الجمهورية الأرمنية، والمكتبة البريطانية (المتحف البريطاني سابقًا) في لندن، والمكتبة الوطنية في باريس، ومكتبة أمبروزيانا في مدينة ميلانو (إيطاليا)، والفاتيكان في روما، ومكتبة الدولة في برلين (ألمانيا)، وجامعة لَيْدِن (هولندا)، ومكتبة إسكوريال في إسبانيا، ومكتبة شستربتي في مدينة دَبْلن (أيرلندا). وأخيرًا الولايات المتحدة الأمريكية نذكر منها –في هذا الحديث- مكتبة الكونجرس في واشنطون، ومكتبة جامعة برنستون.
أما خدمة هذه المخطوطات، فميدانه واسع، ولا بد أن تكون لدينا خُطة استراتيجية لإنقاذ هذه المخطوطات، عربية وإسلامية، من أخطار وإهمال تعرضت لها في القرون الأخيرة.
وحقٌّ عليَّ أن أوجز لكم أنواع هذه الخدمات التي ينبغي أن تُسدى لها، مرتبًا إياها على وَفْق الأولوية:
1- في البدء ترميم وصيانة المخطوطات وتجليدها وحسن حفظها في بيئة صحية، فالرطوبة والحرارة الشديدة تهددها بالاندثار. وبالمناسبة أذكر غَيْرَة جمعية المخطوطات الإسلامية (المكنز، وهو فرعها في القاهرة) فبادرت بمشروع جليل وهو ترميم وصيانة مخطوطات دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة.
2- تصوير هذه المخطوطات على مايكرو فيلم (35 ملم)، وCD لحفظ المادة العلمية من التلف، وتمكين العلماء والباحثين من الاطلاع عليها، أو تصوير نُسَخ منها.
3- فهرسة هذه المخطوطات على المنهج الوصفي، وإشاعتها بإصدارها في فهارس ورقية، وفي الـ(Inter Net)، وهو عمل مُلِحٌّ، خاصة إذا علمنا أن ثلثي المخطوطات في العالم لم يُفهرس بعد، ودون فهرستها تظل المخطوطات في المكتبات العامة والخاصة سرًّا لا يُستطاع معرفتها أو الوصول إليها إلا بطريق الصدفة أو الحظ.
4- تحقيق هذه النصوص، في مختلف العلوم تحقيقًا منهجيًّا، وكلُّ محقق على وَفْق تخصصه.
5- دراسة هذه النصوص واستخلاص الفوائد منها، والكشف عن دور هذه الحضارة العربية والإسلامية الحقيقي، بين الحضارات السابقة واللاحقة.
إن دراسة هذه النصوص بعد تحقيقها تُمثل قوة دفع للدراسات العربية الإسلامية في العصر الحديث.
إن الاشتغال بالتراث عمومًا يُمثل قوة دافعة، تبعث في نفوسنا الثقة بالذات، وتساعدها في الوقت نفسه على تبين مواطن الضعف ومواطن القوة في حياتها. فخدمة المخطوطات على الوجه الذي ذكرناه، لا تُمثل رجعة إلى الوراء، بل هو قوة دفع إلى الأمام؛ لأن فيه من الذخائر والتجارب ما ينبغي أن يوصل بالحاضر المُفضي إلى المستقبل.
›› التعليقات
›› أضف تعليق